159 – ثمّ حثّ الله سبحانه على إظهار الحقّ وتبيانه ونهى عن إخفائه وكتمانه
فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ) أي يخفون (مَا أَنزَلْنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ ) أي من الأدلّة على توحيد الله (وَالْهُدَى ) إلى طريق
الحقّ (مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ) يعني في
الكتب السماوية كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، ويريد بذلك علماء
الضلال من اليهود والنصارى وغيرهم الذين يعرفون الحقّ ويكتمونه عن الناس
لأجل غاياتهم ولأجل المال (أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ ) أي يمقتهم
ويغضب عليهم (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) أي ويلعنهم مقلّدوهم من الناس
وذلك يوم القيامة حين يشاهدون العذاب .
فإنّ أكثر العلماء رأوا قومهم ضالّين عن الطريق يشركون بالله فسكتوا على
ذلك ولم يرشدوهم إلى طريق الحقّ وذلك لأجل المال وخيفةً من أن يمقتهم
قومهم فهؤلاء الذين لعنهم الله ويلعنهم قومهم يوم القيامة لَمّا يرون
العذاب .
168 – كان بعض العرب تحرّم على أنفسها من الأنعام وذلك ما يسمّونَها
بالبحيرة والسائبة والوصيلة ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ ) من الأنعام (حَلاَلاً ) أي
أحللناه لكم ولم نحرّمه ، ومع كونه حلالاً فهو (طَيِّباً ) أيضاً أي يستطاب
في المأكل فلماذا تحرّمونه ؟ (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )
بتحريم الأنعام ، أي لا تتّبعوا ما زيّنه لكم الشيطان وخطّه ، وهذا مثل
يقال في الاتّباع والتقليد ، والخطوة في الأصل ما بين قدمي الماشي ، يقال
فلان يتّبع خطوات فلان أي يقتدي به (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) أي
ظاهر العداوة .
171 – (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) في عنادهم وامتناعهم عن الإيمان
(كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ ) أي بالذي لا يسمع ، يقال
نعق الراعي بالغنم ، إذا صاح بها زجراً ، ومن ذلك قول الأخطل :
فَانعَقْ بضأنِكَ يا جريرُ فإنّما لَعَنتكَ نفسُكَ في الخلاءِ ضَلالا
والذي نعق بما لا يسمع هو إبراهيم الخليل عليه السلام 1 ، وذلك لَمّا قدّم
الطعام إلى الأصنام فقال [ كما في سورة الصافات]: {أَلَا تَأْكُلُونَ .
مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ . فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} ،
والمعنى يقول الله تعالى : مثلك يا محمّد مع هؤلاء الكافرين وكلامك معهم
كمثل إبراهيم ونعقه بالأصنام التي لا تسمع ولا تفهم ، فكذلك الكافرون لا
يسمعون ما تقول لهم عناداً منهم وتكبّراً (إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ) يعني
لم يكن كلامك يا محمّد مع هؤلاء المشركين إلاّ دعاءً ونداءً ذهب أدراج
الرياح ، لأنّهم (صُمٌّ ) عن استماع الحقّ (بُكْمٌ ) عن النطق به (عُمْيٌ )
عن النظر إلى الآيات والبراهين (فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) لأنّهم مقلّدون ،
والمقلّد لا يستعمل عقله .
آراء المفسّرين
جاء في مجمع البيان صفحة 250 في تفسير هذه الآية قال : " ثم ضرب الله
مثلاً للكفار في تركهم إِجابة من يدعوهم إلى التوحيد وركونهم إلى التقليد
فقال { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } أي يصوّت { بما لا يسمع } من
البهائم { إِلا دعاء ونداءً } واختلف في تقدير الكلام وتأويله على وجوه :
(أولها) أن المعنى مثل الذين كفروا في دعائك إِياهم أي مثل الداعي لهم
إلى الإِيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم
وإِنما تسمع الصوت فكما أن الأنعام لا يحصل لها من دعاء الراعي إِلا السماع
دون تفهّم المعنى فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إِياهم إلى الإِيمان
إِلا السماع دون تفهّم المعنى لأنهم يعرضون عن قبول قولك وينصرفون عن
تأمّله فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه ، وهذا معنى قول ابن عباس
والحسن ومجاهد وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وهو اختيار الجبائي
والرماني والطبري ،
(وثانيها) أَن يكون المعنى مثل الذين كفروا ومثلنا أو مثل الذين كفروا
ومثلك يا محمد كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً ، أي كمثل
الأنعام المنعوق بها والناعق الراعي الذي يكلّمها وهي لا تعقل فحذف المثل
الثاني اكتفاء بالأول ، وهو قول الأخفش والزجاج وهذا لأن في الآية تشبيه
شيئين بشيئين, تشبيه الداعي إلى الإِيمان بالراعي وتشبيه المدعوين من
الكفار بالأنعام ، فحذف ما حذف للإِيجاز وأبقى في الأول ذكر المدعو وفي
الثاني ذكر الداعي وفيما أبقى دليل على ما ألقى ،
(وثالثها) أن المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الراعي في
دعائه الأنعام فكما أن من دعا البهائم يعدّ جاهلاً فداعي الحجارة أشد جهلاً
منه لأن البهائم تسمع الدعاء وإِن لم تفهم معناه والأصنام لا يحصل لها
السماع أيضاً عن أبي القاسم البلخي وغيره ،
(ورابعها) أن مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وهي لا تعقل ولا تفهم
كمثل الذي ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع صوته جملة ويكون المثل مصروفاً إلى
غير الغنم وما أشبهها مما يسمع وإِن لم يفهم وعلى هذا الوجه ينتصب دعاء
ونداء بيَنْعِقُ وإِلاّ ملغاة لتوكيد الكلام ،
(وخامسها) أن يكون المعنى ومثل الذين كفروا كمثل الغنم الذي لا يفهم دعاء
الناعق فأضاف سبحانه المثل الثاني إلى الناعق وهو في المعنى مضاف إلى
المنعوق به ، ثم وصفهم سبحانه بما يجري مجرى التهجين والتوبيخ فقال { صمٌّ
بكم عمي فهم لا يعقلون }" انتهى
فانظر إلى تفسيرهم لقوله تعالى (بِمَا لاَ يَسْمَعُ ) فقالوا هي الغنم .
أقول : كيف يعبّرون ذلك بالغنم أفليست الغنم لها آذان فهي تسمع وتفهم نعق
الراعي ؟
-----------------------------------------------------
1[لم يرد في أيّ كتاب من كتب التفسير ، ولا في أيّ كتاب سواها مَن وضّح
المقصود من كلمة (الذي) مطلق ، غير سماحة المؤلّف ، فهو أوّل من وضّحه . –
المراجع ]